بدأت الفتوحات في العراق أيام أبي بكر الصديق، وكانت البداية تحت إمرة المثنى بن حارثة الشيباني إلى أن قدم خالد بن الوليد العراق فجعل أبو بكر الولاية له، فلما أمره بالمسير إلى الشام أعاد أبو بكر الولاية مرة أخرى إلى المثنى. وحينما تولى عمر الخلافة كان المثنى هو والي العراق، وقد فتحت فيه أصقاع كثيرة، إلا أن المسلمين لم يتركزوا فيه ولم تقم فيه الأمصار، وكان المسلمون مجاهدين فاتحين ينتقلون من جهة إلى أخرى، واستقبل عمر خلافته بمتابعة فتوحات العراق وأعد جيشا بقيادة أبى عبيد بن مسعود الثقفي، وأمر المثنى بالسمع والطاعة له.
قام عمر فانتدب الناس لمتابعة الفتح في العراق وقتال الفرس، فتباطؤوا عن الإجابة لأن جبهة القتال الفارسية كانت من أكره الجبهات إلى الناس وأثقلها عليهم، لشدة سلطان الفرس وعزهم وشوكتهم وقهرهم الأمم وأعاد عمر استنفار الناس ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كان أول منتدب أبو عبيد الثقفي ثم سليط بن قيس وسعد بن عبيد الأنصاري وتوالى المتطوعون حتى بلغوا ألف رجل من أهل المدينة المنورة فقط، وأمر عمر المثنى أن يعود سريعا إلى العراق وينتظر هناك إلى أن يقدم عليه رجاله، وأن يستنفر من حسن إسلامه من أهل الردة، فسار المثنى حتى قدم الحيرة.
وكانت بوران بنت كسرى أبرويز قد اعتلت العرش الفارسي، فجهزت جيشا كبيرا بقيادة نرسي وجابان وهو أحد أثرياء العراق المعروف بعدائه للمسلمين، وسلك هذان القائدان طريقين مختلفين تحسباً من أن ينقض عليهما المسلمون: فوصل نرسي إلى كسكر بين الفرات ودجلة وعسكر فيها بناء على أوامر رستم، وتخطى جابان الفرات إلى الحيرة ونزل في موقع متقدم في النمارق بين الحيرة والقادسية، وطلب القائدان مزيداً من القوات من المدائن لتعزيز لصفوفهما. وفي هذا الوقت وصل المثنى إلى الحيرة، وعلم بالاستعدادات الفارسية الضخمة، وأدرك أنه لا قبل له بلقائهم، فآثر الحذر وانسحب من الحيرة وأدركه أبو عبيد فيها.
معركة النمارق
عبأ أبو عبيد جيش المسلمين البالغ عشرة آلاف مقاتل وزحف نحو النمارق، وجعل المثنى على الخيل، ودارت المعركة بين الطرفين فى قتال شديد، وانهزم الفرس أمام المسلمين، ووقع جابان فى الأسر، لكنه تمكن بدهائه من خديعة آسره ولم يعرفه ففدى نفسه وهرب.
معركة السقاطية
توجه من نجا من الفرس إلى كسكر لينضم إلى جيش نرسي، فطاردهم المثنى إلى درنا وهي دون الحيرة ومن أبواب فارس.
ووصلت أنباء هزيمة جابان إلى المدائن، فجهز رستم جيشا آخر بقيادة الجالينوس ودفعه مدداً لنرسي. وكان نرسي يتمنى وصول المدد قبل أن يشتبك مع المسلمين، فراح يناور ويتمهل في خوض المعركة، لكن أبا عبيد عاجله واصطدم به في السقاطية وانتصر عليه ، وفر نرسي بعد هزيمة منكرة.
معركة باقسياثا
عسكر الجالينوس في باقسياثا، وتقوى بمن انضم إليه من فلول جابان، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين وهو على تعبئته، ودارت الدائرة على الفرس فانهزموا، وهرب الجالينوس وعاد إلى المدائن، وغلب المسلمون على تلك البلاد وانتشروا في قرى السواد وهكذا تم القضاء على ثلاثة جيوش للفرس في ثلاث معارك، خلال عشرة أيام فقط.
معركة الجسر
أثار الانتشار الواسع للمسلمين في قرى السواد حفيظة الفرس، واستشعروا الخطر الحقيقي الذي أخذ يهددهم، فجهزوا جيشا جديدا، وعين رستم قائدا عليه بهمن جاذويه وهو أشد العجم على العرب المسلمين، واصطحب معه الجالينوس.
وسار الفرس من المدائن حتى نزلوا قس الناطف قريبا من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، وسار أبو عبيد بجيشه حتى نزل على شاطئ الفرات الغربي، وجعل الفرات بينه وبين العدو. فبعث إليه قائد الفرس: إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن نعبر إليكم! فقال الناس لا تعبر يا أبا عبيد، إنا ننهاك عن العبور! فحلف أبو عبيد ليقطعن الفرات إليهم. وناشده سليط بن قيس ووجوه الناس وقالوا: إن العرب لم تلق مثل جنود فارس، وإنهم قد احتشدوا واستقبلونا في عدد كبير وقد نزلت منزلا لنا فيه مجال وملجأ ومرجع من فرة إلى كرة ، فلج أبو عبيد وترك الرأي وقال: لا يكونون أجرا على الموت منا.
ونسي توجيه عمر بأن يسمع من الصحابة ويشركهم في الأمر، وأن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث، وأن فارس أرض المكر والخديعة.
وعبر المسلمون على الجسر في الضفة الغربية للفرات إلى الضفة الشرقية، وكان جيشهم أقل من عشرة آلاف، ومع ذلك ضاق بهم المكان الذي تركه لهم الفرس. ولم يمهلهم الفرس بعد عبورهم، بل هاجموهم بعنف شديد، وكان في مقدمة الفرس فيلة مدربة أخافت خيول المسلمين حيث فرت لا تلوي على شيء، ورشق الفرس المسلمين بالنبل فقتلوا منهم خلقا كثيرا.
ودارت رحى معركة ضارية، واشتد الأمر بالمسلمين، فترجل أبو عبيد والناس ومشوا إلى الفرس وصافحوهم بالسيوف، ولكن الفيلة صدت المسلمين وبعثرتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة، وقطعوا أحزمتها، وأقبلوا عنها أهلها ووثب هو بنفسه على فيل أبيض فقطع حزامه فوقع الذين على ظهره، ثم ضرب خرطومه بالسيف، ولكن الفيل هاجم أبا عبيد وضربه برجله فألقاه على الأرض وقام فوقه فأزهق روحه!.
ورأى الناس قائدهم شهيدا تحت أقدام الفيل، فاستقتلوا وهاجموا وتتابع سبعة من ثقيف كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت، حتى أخذ اللواء المثنى بن حارثة الشيبانى.
خشي المثنى أن تعم الفوضى ويتفاقم الخطر، فوقف واللواء بيده ينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس، أنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا، فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم. فعبر الناس، والمثنى يقاتل دونهم ويحول هو ورجاله بين الفرس وبينهم، فأصابت المثنى وهو في موقفه ذلك ضربة رمح جرحته وأثبتت فيه حلقا من درعه وبعد عبور المسلمين، عبر المثنى آخر من عبر، وبذلك استطاع المثنى أن يخلص من الغرق والقتل من بقي من جند المسلمين، إذ عبروا إلى الجانب الآخر، والمثنى صامد لا يزعزعه شيء، حتى جرحه البليغ الذي أصابه! وانسحب بقواته إلى الحيرة ثم إلى أليس جنوبا؛ ليفلت من مطاردة الفرس.
وقتل في هذه المعركة من الفرس زهاء ستة آلاف، واستشهد من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وفر ألفان، وصمد ثلاثة آلاف مع المثنى.
تلقى أمير المؤمنين الأخبار بمرارة، لكنه تجلد للمصاب، وواسى المسلمين؛ فلما قدم عليه فل الناس، ورأى جزع المسلمين قال: لا تجزعوا يا معشر المسلمين، أنا فئتكم، إنما انحزتم إلي وقال: أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو ففظع بشيء من أمره فأنا له فئة، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إلي لكنت له فئة.
معركة البويب
بعد وقعة الجسر بقي المثنى في قلة من المجاهدين، فأرسل إلى عمر يطلب منه المدد، وبعث إلى من يليه من القبائل العربية يدعوهم إلى الجهاد، فتوافوا إليه في جمع عظيم. وقام أمير المؤمنين يرغب الناس في المسير إلى العراق وإعانة المثنى ومن معه على فارس وقد كثفت جنودهم. فبعث إلى المثنى قبيلة بجيلة وعليهم جرير البجلى، وطائفة ضخمة من بني كنانة عليهم غالب بن عبد الله الليثي، والأزد وعليهم عرفجة بن هرثمة، وآخرين من الرباب وجشم وخثعم وبني حنظلة وبني ضبة وعبد القيس وغيرهم. تتاعت الإمدادات من المدينة على المثنى، وتقدم الفرس عليهم مهران بن باذان وعسكر المسلمون على شاطئ الفرات الشرقي، والفرس مقابلهم، لا يفصل بينهم إلا النهر فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا جميعا ليكون أقوى لهم.
وأرسل مهران إلى المثنى يقول له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، متبعاً خطة بهمن جاذويه، وما كان للمثنى أن يعيد خطأ أبي عبيد، كذلك التزم بأمر عمر ونصيحته وقد عهد إليه وإلى المسلمين ألا يعبروا بحرا ولا جسرا إلا بعد ظفر. وعبر الفرس إلى البويب ومعهم ثلاثة أفيال، واشتبك الجيشان ودارت رحى معركة طاحنة، وأدار المثنى المعركة بحكمة مما كفل له النصر، وقتل مهران وتشتت جيشه وفر أفراده في فوضى واضطراب نحو الجسر يريدون النجاة بأنفسهم، فسابقهم المثني وقطع الجسر وأوقع فيهم مقتلة ذريعة. واستشهد من المسلمين كثير من الشهداء.
واستقام الأمر للمسلمين بعد معركة البويب، واستغل المثنى النصر الرائع الذي أحرزوه، فشن غارات منظمة على أسواق شمال العراق، وطبق مبدأ مطاردة العدو، فوزع القادة، وأذكى المسالح، وأغار على تجمعات الفرس، ففتحوا السواد كله حتى بلغوا ساباط قرب المدائن، وانطلق المثنى فغزا الخنافس والأنبار وبلغ المسلمون على محور دجلة قرية وخضعت لهم البلاد فيما بين دجلة والفرات.
وهذه الانتصارات الإسلامية المتلاحقة أثارت حفيظة الفرس، فاجتمع ساداتهم وقالوا لرستم والفيرزان: أين يذهب بكما! لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوهم، وإنه لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأي، وأن تعرضاها للهلكة؛ ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت.
فاتفق ملأ فارس على يزدجزد بن شهريار، فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته، ورأوا في ذلك مخرجا مما كانوا فيه. وبدأ يزدجرد يزاول سلطانه بمعونة رستم والفيرزان، فجدد المسالح والثغور التي كانت لكسرى، وخصص جنداً لكل مسلحة، فسمى جند الحيرة والأنبار والأبله.
وأدرك المثنى أن أهل السواد سينتقضوا على المسلمين فكتب إلى عمر ليوقفه على خطورة الوضع في العراق، إذا اتجهت جيوش الفرس نحوهم، وقبل أن يصل الكتاب إلى أمير المؤمنين حتى ثار أهل السواد من كان له منهم عهد ومن لم يكن له منهم عهد، فخرج المثنى بجنده متجها نحو تخوم الجزيرة العربية وجاءه كتاب أما بعد: فاخرجوا من بين ظهري الأعاجم، وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحداً ولا مضر ولا حلفائهم أحدا من أهل النجدات ولا فارسا إلا اجتلبتموه، فإن جاء طائعا وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم، فلتلقوا جدهم بجدكم.
فتوافق رأي أمير المؤمنين مع رأي المثنى فانسحب نحو جنوب العراق إلى تخوم الجزيرة العربية، ونزل بذي قار.