مقدمة
ظهرت الإدارة الإسلامية بعد تأسيس الدولة في المدينة؛ حيث اكتملت أركانها بتوفُّر الأرض ووجود الشعب وقيام السلطة بأنواعها التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة، متمثَّلة بشخص النبيِّ صلى الله عليه وسلم القائد والمؤسِّس الأوَّل لدولة الإسلام، فكان يقضي بين الناس ويفتيهم، ويُنظِّم شؤون الدولة من واقع هيكلٍ تنظيميٍّ للوظائف المختلفة.
وبرزت في عهد أبي بكر رضي الله عنه مشكلاتٌ سياسيَّةٌ وإداريَّةٌ بما واجهه من ارتداد العرب، واهتمامه بالقضاء على مظاهر تلك الرِّدَّة، بل إنَّه أنفذ جيش أسامة رضي الله عنه وبدأ بتنظيم الجيوش لمحاربة المرتدين. وبعد أن قضى على كلِّ مظهرٍ للرِّدَّة ورأب الصدع وثبَّت دعائم الدولة ووطَّد الأمن في أرجائها، وجَّه جيوش الفتوح إلى العراق وبلاد الشام.
استلم عمر رضي الله عنه إدارة الدولة بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه وقد أحاط بها الأعداء من كلِّ جانب وبخاصَّةٍ الدولتان الفارسية والبيزنطية، فانتدب الناس لمحاربتهما، وانتصر المسلمون عليهما وفتحوا العراق وفارس وبلاد الشام ومصر، فاتَّسعت بذلك رقعة الدولة، واختلط العنصر العربيِّ بالعنصر الأعجميِّ من سكان البلاد المفتوحة، وتدفَّقت الأموال على المدينة من الغنائم وغيرها ممَّا أدَّى إلى بروز مشكلاتٍ كثيرة تطلَّبت حلًّا، لعلَّ أهمَّها: إدارة الولايات خارج الجزيرة العربية، استمرار الفتوح أو توقُّفها ريثما يتمُّ استيعاب ما أُنجز منها، توزيع الغنائم على المقاتلين بعد تدفُّق الأموال الكثيرة، إدارة أراضي الفتح، وغيرها من المشكلات كتأسيس المدن في بعض الجهات على شكل معسكراتٍ كالكوفة والبصرة في العراق والفسطاط في مصر.
التقسيم الإداري للدولة
اتَّسعت الأراضي الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه اتساعًا كبيرًا ممَّا اقتضى وضع تنظيمٍ محكمٍ حتى تسهل إدارتها والإشراف على مواردها، وعيَّن عمر أميرًا حاكمًا على كلِّ ولاية يتحمَّل تبعات الحكم ويكون نائبًا عنه. ثم عاد بعد ذلك ففصل القضاء عن اختصاص الولاة، وعيَّن قاضيًا على تلك الولايات، وكان يمدهم بتوجيهاته، وخصَّصهم بالأرزاق. وكان القاضي يتمتَّع بسلطةٍ واسعةٍ وغالبًا ما كانت له صفةٌ استقلاليَّة، ثُمَّ صاحب بيت المال، وصاحب الديوان المسئول المباشر عن مرتَّبات الجند، وكان حاكم الولاية هو في الوقت نفسه قائد الجيش فيها، وكان يختار أعوانه القادة، ويُشارك في الحملات العسكريَّة أو ينتدب ممثِّلًا عنه.
وقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تقسيم الأمصار المفتوحة إلى خمس مناطق كبيرة تنقسم بدورها إلى ولايات، وهي:
- العراق (الأحواز، الكوفة، البصرة).
- فارس (سجستان ومكران وكرمان، طبرستان، خراسان)
- الشام (قسم قاعدته حمص، وقسم قاعدته دمشق).
- فلسطين (قسم قاعدته أيلة وقسم قادته الرملة)
- مصر (صعيد مصر، مصر السفلى، وصحراء ليبيا).
أما في شبه الجزيرة العربية فأبقى على تقسيمها كما فعل أبو بكر الصديق، واستمرت تضم اثنتي عشر ولاية، هي: مكة المكرمة، المدينة المنورة، الطائف، صنعاء، حضرموت، خولان، زبيد، مرقع، الجند، نجران، جرش، والبحرين. كما قسّم الخليفة ولايات الشام إلى مقاطعات عدة دُعي كل منها جُندًا، وهي: جند قنسرين، جند دمشق، جند حمص، جند الأردن، وجند فلسطين.
شروط عمر في اختيار الولاة
لم يكن ينظر إلى صلاح الرجل في ذاته، ولكن إلى صلاحه للولاية، لذلك كان يولي أناسًا وأمامه من هو أتقى منهم وأكثر علمًا، وأشد عبادة، وكان يقول: إني لأتحرج أن استعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه. وكان يستعمل رجلًا من أصحاب رسول الله مثل عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، ويدع من هو أفضل منهم مثل عثمان بن عفان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، ونظرائهم لقوة أولئك على العمل والبصر به، ولإشراف عمر عليهم وهيبتهم له.
قال عمر يومًا لأصحابه: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني. قالوا: فلان. قال: لا حاجة لنا فيه، قالوا: من تريد؟ قال: أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإن كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم، فولاه.
وكان لعمر رضي الله عنه عدة قواعد في تعيين الولاة كما كان يشترط عليهم بعض الأمور ويتم اختيار الولاة ضمن الإطار الديني، بالإضافة إلى الصِّفات الحميدة مثل: الصدق والأمانة والكفاءة واليقظة، وكان عمر رضي الله عنه على معرفةٍ بكنه الرجال الذين تتوفَّر فيهم شروط التعيين ومن تلك الشروط:
1- القوة والأمانة
وقد طبق الفاروق هذه القاعدة، ورجح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمرُ شرحبيلَ بن حسنة وعيّن بدله معاوية، فقال له شرحبيل: أمن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكني أريد رجلًا أقوى من رجل. ومن أجمل ما أُثر عن عمر في هذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة.
2- مقام العلم في التولية
وقد جرى عمر الفاروق على سنة رسول الله في تولية أمراء الجيوش خاصة وكان عمر يستعمل قومًا ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، وكان التفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر كانوا أفضل دينًا، وأكثر ورعًا، وأكرم أخلاقًا ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم.
وقد استبعد عمر بن الخطاب رجل لا يعرف الشر، فقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملًا فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه. وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الحكم والإدارة، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سماه عمر بن الخطاب البصر بالعمل.
3- أهل الوبر وأهل المدر
كان عمر بن الخطاب في كثير من الأحيان يولى بعض الناس على قومهم، وذلك إذا رأي مصلحة في ذلك أو أن يكون الرجل جديرًا بالولاية، ومن ذلك توليته جابر بن عبد الله البجلي على قومه بجيلة، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف.
فكان عمر ينظر حين يعيّن أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات، والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهي عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر، وأهل الوبر هم ساكنو الخيام، وأهل المدر هم ساكنو المدن.
4- الرحمة والشفقة على الرعية
كان عمر يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغزو بالمسلمين، ولا ينزلوهم منزل هلكة.
5- لا يولي أحدًا من أقاربه
كان عمر حريصًا على أن لا يولي أحدًا من أقاربه رغم كفاية بعضهم، وسبقه إلى الإسلام مثل: سعيد بن زيد ابن عمه، وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم، ويقول عمر: لوددت أني وجدت رجلًا قويًّا، أمينًا مسلمًا استعمله عليهم، فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا.
وكذلك أن لا يكون من آل النبيِّ ولا من أكابر الصحابة؛ لأنهم قد يرتكبون أخطاءً لا يُمكن السكوت عليها فيقع الخليفة في الحرج من واقع إنزال العقاب المناسب بهم، وذلك لا يُريده، أمَّا السكوت عن تجاوزاتهم وأخطائهم فهو أشدُّ على عمر رضي الله عنه، ثُمَّ هناك الحاجة إلى مشورتهم وفقههم، لذلك فإنَّه لم يولِّ عثمان بن عفان أو عليَّ بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم وغيرهم.
6- لا يعطي من طلبها
كان لا يولي عملًا لرجل يطلبه، وأراد أن يستعمل رجلًا فبدر الرجل بطلب العمل، فقال له: قد كنا أردناك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
7- منع العمال من مزاولة التجارة وإحصاء ثرواتهم عند تعيينهم
كان عمر يمنع عماله من الدخول في الصفقات العامة سواء أكانوا بائعين أو مشترين، وكان عمر يحصي أموال العمال والولاة ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية.
وروي أن عاملًا لعمر بن الخطاب وهو الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها، فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتّجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من ربح.
8- شروط عمر على عماله
كان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملًا كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رهطًا من الأنصار: أن لا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم فاشهد.
حرص عمر رضي الله عنه عند اختيار أحد الأشخاص أن يُعطيه عهد التعيين الذي يتضمَّن شروطًا سلوكيَّةً مشهودًا عليها ليُنفِّذها خلال ولايته، وأهمَّها تطبيق حكم الله، وإحلال العدل، ونشر الأمن والطمأنينة بين الناس، وأن لا يركب برذونًا، ولعلَّ هذا المنع يعود إلى الصفات الخِلْقِيَّة لهذه الدابة التي تبعث على الخُيَلاء والكِبْر التي خشيها عمر على نفسه فكيف على ولاته؛ وذلك خشيةً عليهم من الوصول إلى الخيلاء والكبر التي قد تُصبح صفةً خُلُقِيَّة للوالي، ومنعهم من لبس الرقيق؛ ذلك بفعل حرصه على محافظة العمال على الأخلاق الإسلاميَّة الرفيعة في المظهر، والمعروف ومنعهم من أكل النقيِّ من الدقيق؛ ذلك لحرص عمر رضي الله عنه على مساواة الحكَّام بالمحكومين في المأكل والمشرب، ومنعهم من إغلاق بابهم دون حوائج الناس، واتِّخاذ حاجبٍ يكون حاجزًا بينهم وبين الرعيَّة.
9- المشورة قبل اختيار الولاة
كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة، فقد استشار الصحابة فيمن يولي على الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة من تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم لينًا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا شكوه، ثم قال: يا أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي، وآخر قوي مشدد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوى المشدد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك، فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين.
10- اختبار الولاة قبل التعيين
كما كان عمر يختبر عماله قبل أن يوليهم، يقول الأحنف بن قيس: قدمت على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عنده حولاً فقال: يا أحنف قد بلوتك وخبرتك، فرأيت أن علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم. ثم قال له عمر: أتدرى لم احتبستك؟ وبين له أنه أراد اختباره ثم أرسله إلى أبو موسى الأشعري بالعراق فولاه قيادة الجيش المتجه لفتح خراسان.
تعيين المراقبين
أصبح من الصعب الإحاطة بكلِّ ما يجري في كلِّ ولاية نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، ولمـَّا كان عمر حريصًا على أن يقف على دقائق الأمور في تصرُّف ولاته فقد اختار رجلًا من خيرة رجاله تقوى وقوَّةً وأمانةً وسنًّا وتجربةً، هو محمد بن مسلمة الأنصاري ليكون مراقبه الخاص على العمال وأعمالهم والنظر في الشكاوى المرفوعة لهم، وقد دعا عمر محمَّد بن مسلمة وكان رسوله إلى العمَّال، فبعثه وقال: إئتيني به؛ أي بالوالي الذي خالف الشروط وهو عياض بن غنم، على الحال الذي تجده عليها. قال: فأتاه فوجد على بابه حاجبًا، فإذا عليه قميصٌ رقيق، قال: أجب أمير المؤمنين، قال: دعني أطرح عليَّ قبائي. قال: لا إلَّا على حالك هذه. فقدم به عليه؛ أي على عمر في المدينة.
ولم يكتفي بذلك بل كان يفكر في أن يقوم بنفسه بجولات تفتيشية علي الولايات قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولًا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا.
ولم يكتف الفاروق بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات، بل عمد إلى طريقة أخرى، وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة، وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها.
محاسبة الولاة
كان عمر رضي الله عنه يُحاسب عمَّاله عن أخطائهم، وهذا نابعٌ من واقع موقفه من الأمَّة الإسلاميَّة حيث كانت الأمَّة في نظره متساوين في الحقوق والواجبات، مثلما حدث مع أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه حاكم البصرة عندما رُفعت شكوى ضدَّه، فاستدعاه عمر رضي الله عنه وحقق معه بنفسه، وكان يحصي وضع العامل الماليِّ وقت إرساله ثُمَّ يُشاطره ماله وقت عزله إذا زاد رأس ماله بشكلٍ يُثير الشبهة، وكان يقول لعمَّاله: "نحن إنَّما بعثناكم ولاةً ولم نبعثكم تجَّارًا".
وكان عمر رضي الله عنه يجمع عمَّاله بمكَّة في موسم الحج من كلِّ عام يسألهم عن أعمالهم، ويسأل النَّاس عنهم ليرى مدى دقَّتهم في الاضطلاع بواجبهم وتنزُّههم حين أدائه لأنفسهم أو لذويهم، وكان يغتبط حين يرى عمَّاله يتجرَّدون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك ثناءً عظيمًا.
كان عمر يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد العودة إلى المدينة التي جاء منها وأن ينادى في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والى المدينة، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئًا من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحًا أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف، ويقرأها عمر ويرى ما فيها.