العودة إلي دمشق
بعد انتصار المسلمين في بيسان وقد أصبحت المنطقة خلفهم آمنة، تحركوا بعد ذلك إلى دمشق حيث كانت تمثل العقبة الوحيدة أمامهم، لوجود أكبر حامية رومية بها.
انتقل المسلمون من منطقة بيسان إلى دمشق حيث كانت مدينة حصينة، وحامية الروم فيها قوية، ولكن هذه المرة تختلف حيث إن البلاد التي خلف المسلمين الآن أصبحت كلها إسلامية، فلا خوف من أن يأتيهم جيش رومي من خلفهم، وقد اهتم الروم بدمشق لأهميتها الخاصة، فوضعوا حولها حصون ضخمة وعظيمة، وكان ارتفاع السور 6 أمتار، وعرضه 4 أمتار ونصف، وهو مبني بالحجارة السميكة، وبه أبراج يبعد كل برج عن الآخر 15 مترًا، وهذه الأبراج بها عيون يقذف منها الجنود الرماح والأسهم على من يقترب منها، وكان حول سور دمشق خندق عظيم، يحيط بدمشق كلها، إحاطة السوار بالمعصم، وكان هذا الخندق عريضًا بحيث يتعذر قفز الخيول من فوقه!! وكان عميقًا أيضًا، كما كان لذلك السور العظيم خمسة أبواب في ذلك الوقت.
بداية الحصار
توجه أبو عبيدة إلى مدينة دمشق، واستعاد ترتيب جيشه، فنزل خالد بن الوليد في مكانه المعتاد الباب الشرقي وكان تعداد جيشه تسعة آلاف مقاتل، ونزل على باب الجابية أبو عبيدة بن الجراح وكان تعداد جيشه سبعة آلاف مقاتل، وحاصر جيش يزيد المنطقة الجنوبية، حول بابي كيسان والصغير، وحاصر جيش عمرو باب توما في الشمال، وحاصر جيش شرحبيل باب الفراديس، وتُرِكَ باب السلامة لصعوبة الطريق إليه.
كما بثَّ المسلمون العيون في كل منطقة، تحسبًا لقدوم قوات رومية من خلف الجبال، إذ تقع دمشق في سفح جبل قاسيون، وفعلاً حدث ما توقعه المسلمون، إذ علموا بوصول قوة رومية قادمة من حمص، متجهة نحو دمشق مددًا للحامية الرومية، فخرجت فرقة صغيرة لمقاتلة هذه القوة، وكانت بقيادة الصَّلْت بن الأسود الكندي، فطاردت تلك القوة التي كانت أكبر من فرقته، ولكنها فرَّتْ، فتعقبها حتى دخل حمص وراءها، وتجاوزت حمص، وفتحت حمص دون أي مجهود يذكر من المسلمين، وطلب أهل حمص الأمان من المسلمين، فأمَّنوهم، ثم عادت القوة الإسلامية مرة أخرى إلى دمشق، بعد فرار القوة الرومية.
كما وضع المسلمون حامية إسلامية في اتجاه الشمال، تجنبًا لحدوث مثل ذلك مرة أخرى، ووضوعوا على رأسها أبو الدرداء، وكانت شمال دمشق في سفح جبل قاسيون.
ثم أرسل أبو عبيدة ذو الكُلاعِ الحِمْيَرِيّ إلى مسافة 45 كلم في الشمال، في اتجاه حمص، وعسكر بقوة أخرى، لحماية المنطقة.
استمر حصار المسلمين للروم لمدة أربعة أشهر وقيل ستة أشهر، وفي أثناء ذلك الحصار أرسل الروم اثنين من الجواسيس العرب، للاندساس في جيش المسلمين فذهبا، ثم عادا لقائد حامية دمشق الرومي نسطورس يقولان له: وجدناهم على طول قيام بالليل، وصبر على الجهاد والتدريب بالنهار، وإذا وجد أحدهم شيئًا كالنعل أو الغزل، وضعه في الغنائم، فإذا سأله صاحب الغنائم: أي شيء هذا؟ قال: لا نستحِلُّه إلا بحِلِّه.
فقال نسطورس قائد دمشق: إن كانوا على هذه الحال، فليس لنا بهم من طاقة.
كان لخالد بن الوليد عيون داخل دمشق، وكان منهم أحد أساقفة دمشق، وكان يمده بالمعلومات، وكانت بينه وبين خالد علاقة وطيدة، إلا أنه لم يُسْلِم، حتى جاء يوم، فقال لخالد: إني أرى أن الغلبة ستكون لكم، فقال له خالد: صالِحْني وكتب عهدًا معه يقول فيه: هذا كتاب من خالد بن الوليد إلى أهل دمشق، أني أمنتهم على ديارهم، وأموالهم، وكنائسهم، ألا تُسْكَنَ، ولا تهدم، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.. وأمَّنَ هذا الأسقف، وقيل أن يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما شهدا على هذا العقد، وإذا صحَّتْ هذه الرواية، فلا شك أن أبا عبيدة قد وصله أمر هذه المعاهدة، وقد تم هذا العهد ولم يعلم القائد الرومي نسطورس عنه شيئًا، إذ كان تصرفًا فرديًّا من أسقف دمشق.
فتح دمشق
جاءت ليلة 14 من رجب عام 14هـ، وفي هذا الوقت ولد مولود لنسطورس قائد الحامية الرومية، فأقام احتفالاً كبيرًا بهذه المناسبة وذهب إليه كل جنود الروم، وكل الموجودين داخل دمشق وداخل الأسوار، وانهمكوا في احتفالهم، وشربهم للخمر، ولا يزال المسلمون حول الأسوار، لم يعلموا بما يحدث إلا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد كان له عيون في كل مكان، فلما سمع هذه الضجة، والأصوات العالية، استشرف الأمر، وإذا بالأسقف الذي وقع معه المعاهدة يرسل له رجلاً يخبره بأن أهل دمشق قد أقاموا ذلك الاحتفال بمولود قائدهم، وأن كثيرًا من الجنود في ذلك الحفل، أدرك خالد عندئذٍ قلة الحراسة عند الأبواب، وكان قد أعد سلالمَ وحبالاً أخذها من الدير القريب منه، على أن يخفف عن صاحب الدير الجزاء إذا فتحت دمشق، وكذلك أعد القِرَبَ التي تمكن المسلمين الذين لا يجيدون السباحة من عبور المياه، وتجاوز هذا الخندق الكبير الذي يحيط أسوار دمشق، عبر هذا الخندق خالد والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي العجلي، وألقوا بالسلالم والحبال على الأسوار، وتمكنوا من تسلق السور، وكانوا أول من نزل داخل الأراضي الدمشقية، وقالوا للمسلمين: إن علامة دخولكم أرض دمشق "التكبير"، ولم يكن هناك إلا عدد قليل من الحراس، فقاتلهم خالد وقتلهم، وأشار إلى رجال فوق السور، ليكبروا، فهجمت القوات الإسلامية على الباب، وفتحته، وقطعوا الحبال التي تمنع فتحه، وتدفقت الجيوش الإسلامية تدفقًا عظيمًا على الباب الشرقي من دمشق بعد منتصف الليل، وعلم الروم بدخولهم فأسرعوا لتدارك موقفهم، ولكن المفاجأة أذهلتهم، وسقط منهم كثير من القتلى، ودار القتال في شوارع دمشق، وقد انتصر المسلمون، وكتب الله لهم النصر.
لما علم قائد الروم بذلك، قام بفتح الباب الغربي وهو باب الجابية لأبي عبيدة، والباب الصغير ليزيد، وباب الفراديس لشرحبيل، وهي الأبواب الثلاثة البعيدة عن خالد بن الوليد، وقال لأبي عبيدة: إني قد عاهدتك على الصلح، ولم يكن أبو عبيدة يعلم أن خالدًا قد دخل من الباب الشرقي في ذلك الوقت، فلما خرجت الجيوش الرومية إلى أبي عبيدة، ويزيد، وشرحبيل تطلب الصلح لم يكن منهم إلا أن يوافقوا وأعطاهم أبو عبيدة الأمان، إلا أنه كان متعجبًا لوقت هذا الصلح.
دخلت الجيوش الإسلامية من غرب دمشق ومن شمالها صلحًا، حتى وصلوا إلى جيش خالد بن الوليد وهو يقاتل، فلم يكن منهم إلا أن اجتمعوا فقالوا: والله إن أخذنا ما ليس لنا فسَفَكْنا الدماءَ، وأخذنا الأموال لَنَأْثمَنَّ، ولئن تركنا بعض ما لنا، لا نأثم، فأنفذوه صلحًا مع دمشق.
وأتي أسقف دمشق، وأحضر معه العهد الذي كان قد أمضاه خالد بن الوليد، فتعجب المسلمون من هذا العهد، وقالوا: كيف يعطي خالد عهدًا وهو ليس بأمير؟ إن هذا لا نجوِّزُه، فقال أبو عبيدة: "إنني من المسلمين، وأجيز على أدنى رجلٍ من المسلمين".