نسبه وإسلامه
قيس بن سعد بن عبادة بن دُلَيْمٍ بن حارثة الساعدي الخزرجي
الأنصاري صحابي جليل من أكرم بيوت العرب وأعرقها نسبًا، فأبوه هو الصحابي
الجليل سعد بن عبادة سيد الخزرج.
كان لأسرة قيس، على عادة أثرياء وكرام
العرب يومئذ، مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان إلى طعامهم نهارا أو
يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ
الشحم، واللحم، فليأت أطم دليم بن حارثة".
ودليم بن حارثة، هو الجد
الثاني لقيس ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح.وقيل عن أبوه
سعد: "كان الرجل من الأنصار ينطلق إلى داره، بالواحد من المهاجرين، أو
بالاثنين، أو بالثلاثة، وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين".
كان من
أطول الناس ومن أجملهم وكان لا ينبت بوجهه شعر كان الأنصار يعاملونه كزعيم
منذ صغره كانوا يقولون:لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا.
قال
عمرو بن دينار: "كان قيس بن سعد رجلًا ضخمًا، جسيمًا، صغير الرأس، ليست له
لحية، إذا ركب حمارًا خطت رجلاه الأرض، فقَدِمَ مكة، فقال قائل: من يشتري
لحم الجزور"، وكان ليس فِي وجهه لحية ولا شعرة، فكانت الأنصار تقول: "وددنا
أن نشتري لقيس لحيةً بأموالنا". وكان مع ذلك جميلًا.
من صفاته رضي الله عنه
1- الذكاء والدهاء
حين
كان قيس، قبل الإسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن،
ولم يكن في المدينة وما حولها إلا من يحسب لدهائه ألف حساب فلما أسلم،
علّمه الإسلام أن يعامل الناس بإخلاصه، لا بدهائه ومن ثمّ نحّى دهاءه
جانبا، ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية وصار كلما واجه موقعا صعبا، يأخذه
الحنين إلى دهائه المقيد، فيقول عبارته المأثورة: "لولا الإسلام، لمكرت
مكرا لا تطيقه العرب".
2- الكرم والجود
قد تربى قيس منذ الصغر
على الشجاعة والكرم، حتى صار يضرب به المثل في جوده وكرمه. ذات مرة جاءت
امرأة عجوز تشكو فقرها إلى قيس، فقال لخدمه: املئوا بيتها خبزًا وسمنًا
وتمرًا.
وكان قيس يطعم الناس في أسفاره مع النبي، وكان إذا نفد ما معه يستدين وينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد.
باع تجارة بتسعين ألفا، ثم أمر من ينادي بالمدينة: من أراد القرض فليأت، فجاء إليه أناس كثيرون، أقرضهم أربعين ألفًا وتصدق بالباقي.
وذات
يوم أصابه مرض فقل عواده وزواره، فسأل زوجته: لم قل عوادي؟ فأجابت: لأنهم
يستحيون من أجل دينك فأمر مناديًا ينادي: من كان عليه دين فهو له، فأتى
الناس يزورونه حتى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه. من كثرة عواده
كان يقول: اللهم ارزقني مالاً وفعالاً فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
وجاءه
كثير بن الصلت فطلب منه ثلاثين ألفًا على سبيل القرض، فأعطاه إياها، ولما
ردها إليه رفض قيس أن يقبلها، وقال: إنا لا نعود في شيء أعطيناه.
وتحدث
أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- عن كرم قيس وسخائه، فقالا: لو تركنا هذا
الفتى لسخائه لأهلك مال أبيه، فلما سمع سعد ذلك قام عند النبي فقال: من
يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطاب، يُبَخِّلان عليَّ ابني.
بعث
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَبَا عُبَيدة بن الجَرّاح في سَرِيَّةٍ
فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلاثمائة رجل، وكان فيهم قيس بن سعد بن
عُبَادة، فأصابهم جوعٌ شديدٌ، فقال قيس بن سعد: من يشتري مِنِّي تَمْرًا
بجُزُر، ويوفيني الجُزُرَ ها هنا وأُوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول:
وَاعَجَبَاه بهذا الغلام، لا مال له يَدَّانُ في مال غيره! فوجد رجلًا من
جُهَينة يعطيه ما سأل، وقال: والله ما أعرفك، من أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد
بن عُبادة بن دُلَيم، فقال الجُهَني: مَا أَعْرَفَنِي بِنَسَبِكَ! فابتاع
منه خمس جزائِر، كل جزور بِوَسْقَيْن من تمر، فقال الجُهَنِي: أَشْهِدْ لِي
فقال قيس: أَشْهِدْ مَنْ تُحِبّ، فكان فيمن أَشهد عمر بن الخطاب فقال: لاَ
أَشْهد! هذا يَدَّان ولا مال له، إنما المَالُ لأبيه، فقال الجُهَنِيّ:
والله ما كان سعد لَيُخْنِي بابنه في سِقةٍ من تمر، وأرى وجهًا حسنًا،
وَفعَالًا شريفًا، فكان بين عُمر وَبَينْ قيس كلام حتى أغلظ له قيس الكلامَ
وأخذ قَيْس الجُزُر فَنَحَرَها في مواطن ثلاثة، كل يوم جزرًا، فلما كان
اليوم الرابع نهاه أميره وقال: تريد أن تُخفر ذمتك ولا مال لك؟ وأقبل أبو
عبيدة بن الجراح ومعه عمر بن الخطاب، فقال: عزمت عليك أَلاّ تنحر، أتريد أن
تُغفر ذمتك ولا مال لك؟! فقال قيسٌ: يا أبا عُبيدة أترى أبا ثابت وهو يقضي
ديون الناس، ويحمل الكَلّ، ويُطعم في المجاعة، لاَ يَقْضِي عَنِّي سِقَةً
من تمرْ لقومٍ مجاهدين في سبيل الله! وبلغ سعدًا ما أصاب القوم من المجاعة،
فقال: إن يكن قيسٌ كما أعرف فسوف ينحر لهم، فلما قدم قيس لقيه سعدٌ فقال:
ما صنعتَ في مجاعة القوم حيث أصابتهم؟ فقال: نحرتُ، قال: أصبتَ انْحَر ثم
ماذا؟ قال: ثم نحرتُ، قال: أصبت انْحَر ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت، قال: أصبت
انْحَر ثم ماذا؟ قال: نُهيتُ، قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجَرَّاح
أَمِيري، قال: وَلِمَ؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما لأبيك فقلت: أَبِي
يقضي عن الأباعد، ويحمل الكَلَّ، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي! قال:
فلك أربع حوائِط، وكتب له بذلك كتابًا، وأتى بالكتاب إلى أَبِي عُبَيدة بن
الجَرّاح فشهد فيه وأتى عمر فأَبَى أن يشهد فيه وأَدْنَى حائطٍ منها يجدُّ
خمسين وسقًا وقدِمَ البدوي مع قيس، فأوفاهُ سِقَتَهُ، وحَملَهُ وكساهُ،
فلما قدم الأعرابيّ عَلَى سعد بن عُبَادة قال: يا أبا ثابت! والله ما مثل
ابنك صَنعتُ ولا تركت بغير مالٍ، فابنك سيدٌ من سادةِ قومه، نهاني الأمير
أن أَبِيعَهُ وقال: لا مال لهُ! فلما انتسب إليك عرفته فتقدّمت عليه لما
أَعرف أَنّك تسمو إلى معالي الأخلاق وجسيمها، وأَنك غير مُذمٍّ بمن لا
معرفة له لديك، قال: فأعطى سعد ابنه يومئذٍ تلك الحوائط الأربع، وبلغ النبي
صَلَّى الله عليه وسلم فعل قيس فقال: "إنه في بيت جُودٍ".
وكان من
دعاء قيس بن سعد: "اللهم ارزقني حمدا ومجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا
مجد إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه". وروي أن رجلا
استقرض من قيس بن سعد بن عبادة ثلاثين ألفا، فلما ردها عليه، أبى أن
يقبلها، وقال: "إنا لا نعود فِي شيء أعطيناه".
وعن أبي صالح، قال:
قسم سعد بن عبادة ماله بين ولده وخرج إلى الشام فمات، وولد له ولد بعده،
فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد، فقالا: إنَّ سعدًا مات، ولم يعلم ما هو
كائن، وإنَّا نرى أن ترد على هذا الغلام، قال قيس: "ما أنا بمغيِّر شيئًا
فعله أبي، ولكن نصيبي له".
قيس بن سعد مع النبي صلى الله عليه وسلم
كان قيس ملازمًا للنبي حتى قال عنه أنس: كان قيس بن سعد بن عبادة من النبي بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.
حين
أسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه أخذ بيد ابنه قيس وقدَّمه إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم قائلًا: "هذا خادمك يا رسول الله". ورأى النبي صلى الله
عليه وسلم في قيسٍ كلَّ سمات التفوُّق وأمائر الصلاح، فأدناه منه وقرَّبه
إليه، وظل قيس صاحب هذه المكانة دائمًا.
وعن قيس بن سعد بن عبادة:
أَنَّ أَبَاهُ دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَخْدِمَهُ،
قال: فَأَتَى علىَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وقَدْ صَلَّيْتُ،
قال: فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَال: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ
أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟"، قُلْتُ: بَلَى، قال: "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا
بِاللَّهِ".
وعن ميمون بن أبي شبيب عن قيس بن سعد رضي الله عنه قال:
"دَفَعَنِي أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْدُمُهُ"، وقال أبو إسحاق يريم أبو العلاء: "حُدِّثْتُ أَنَّ قَيْسَ
بْنَ سَعْدٍ خَدَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وعن
مريم بن أسعد، قال: "كُنْتُ مَعَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ خَدَمَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، تَوَضَّأَ
وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ".
قال ابن شهاب: "كان حامل راية الأنصار
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد بن عبادة"، كما أعطاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة، إذ نزعها من أبيه سعد عندما
قال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل المحرمة، اليوم أذل الله قريشا"،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله
قريشا".
وعن عاصم بن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
استعمل قيس بن سعد بن عبادة على الصدقة، وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي
الله عنه سيدًا مُطاعًا، كثير المال، جوادًا كريمًا، من فضلاء الصحابة،
وأحد دهاة العرب وكرماتهم، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة فِي الحرب،
مَعَ النجدة والشجاعة، وكان من بيت سيادة العرب.
قيس بن سعد وعلي بن أبي طالب رضى الله عنهما
كان
يوم صفين مع أمير المؤمنين علي ضد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، قال
ابن شهاب: "كانوا يعدون دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة رهط، يُقال لهم:
ذوو رأي العرب ومكيدتهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقيس بن سعد
بن عبادة، والمغيرة بن شُعْبَة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، فكان
قيس وابن بديل مع عليِّ، وكان عمرو مع معاوية، وكان المغيرة معتزلًا في
الطائف معتزلا بالطائف وأرضها حَتَّى حكم الحكمان واجتمعوا بأذرح".
وحين
نشب الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، نرى
قيسا يخلو بنفسه، ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه، حتى إذا ما رآه مع عليٍّ
ينهض إلى جواره شامخا، قويا مستبسلا، وفي معارك صفين، والجمل، والنهروان،
كان قيس أحد أبطالها المستبسلين.
كما ولاه أمير المؤمنين عليٌّ حكم
مصر، وكانت عين معاوية على مصر دائما، فكايده معاوية فلم يظفر مِنْهُ بشيء،
وقال قيس: "لولا أن المكر فجور، لمكرت مكرا يضطرب منه أهل الشام بينهم"،
وإن معاوية وعمرو بن العاص كتبا إلى قيس بن سعد كتابا يدعوانه إلى
متابعتهما، وكتبا إليه بكتاب فيه لين، فكتب إليهما كتابا فيه غلظ، فكتبا
إليه بكتاب فيه غلظ، فكتب إليهما بكتاب فيه لين، فلما قرآ كتابه عرفا أنهما
لا يدان لهما بمكره.
فكايد معاوية عليًا رضي الله عنهما، وأظهر أن
قيسًا قَدْ صار معه يطلب بدم عثمان، فبلغ الخبر عليًا، فلم يزل به محمد بن
أبي بكر وغيره حتَّى عزله، فبعث محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة إلى
مصر، فلما قدم هو ومحمد بن أبي حذيفة على قيس بنزعه، علم أن عليا قد خُدع،
فقال قيس لمحمد: يا ابن أخي احذر -يعني: أهل مصر - فإنهم سيُسلِّمونكما،
فتقتلان"، فأُخذت مصر منه، وقُتل.
وبعد استشهاد علي وبيعة الحسن رضي
الله عنه، اقتنع قيس بأن الحسن بن علي رضي الله عنه، هو الوارث الشرعي
للخلافة فبايعه وصار قيس مع الحسن بن علي للقتال، وسار فِي مقدمته إِلى
معاوية، وكان على مقدمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رءوسهم بعد ما مات علي
رضي الله عنه، وتبايعوا على الموت، ولما بايع الحسن معاوية، دخل قيس فِي
بيعة معاوية، وعاد إِلى المدينة.
وفاته رضي الله عنه
بعد مبايعة قيس بن سعد بن عبادة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما لزم المدينة المنورة، وأقبل على العبادة حَتَّى مات بها سنة 60هـ، وقيل: سنة 59هـ، في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه.