أحدث المقالات

المناظرة بين عثمان رضي الله عنه والمنافقين



 التهم الموجهة إلى عثمان رضي الله عنه والرد عليها

قال المفترون: إن عثمان لم يشهد بدراً، وانهزم يوم أحد، وغاب عن بيعة الرضوان. وأنه قعد على درجة المنبر التي قعد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انحط عنها أبو بكر وعمر.
والتهمات الثلاث الأولى قد تولى الصحابي الجليل عبد الله بن عمر ردها، والدفاع عن عثمان بشأنها، وبيان جور من حمل عليه بسببها: أما تغيبه عن غزوة بدر فلأن زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت مريضة، فأقام عثمان عليها عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما فراره يوم أحد، فإن الله تعالى عفا عمن فر يومها وغفر لهم وأما تخلفه عن بيعة الرضوان، فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه سفيراً إلى قريش، ولما تمت البيعة كان عثمان بمكة فبايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم وضرب بيده اليمنى على اليسرى.
وأما أن عثمان جلس على المنبر حيث جلس النبي صلى الله عليه وسلم: فإن أبا بكر لما استخلف كان إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليها، فلما ولي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال: إن هذا يطول، فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان في هذا شبهة مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم أو عيب على عثمان، لما فعله هو رضي الله عنه وهو الرجل الحيي الكريم كما أن فعله هذا ليس فيه تجاوز لهدي الشيخين، ولا جرأة على أن يجلس حيث جلس الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان ثمة شيء من هذا أو ذاك لأنكره عليه الصحابة ولما سكتوا عليه رضوان الله عليهم جميعا.
وقد كان المسجد النبوي ضيق المساحة، فزاده عمر في عهده، ثم ازداد عدد المصلين فوسعه عثمان توسعة كبيرة، فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أمكنة الناس عن المنبر؛ حمل عثمان على أن يعلو على المنبر ليراه الناس ويسمعوه وفي قول عثمان: (إن هذا يطول) لفتة إلى أن أبا بكر وعمر نزلا درجتين، فلو نزل هو درجة أخرى، والخليفة بعده ماذا سيفعل؟ هل سيقف بين الناس؟!

تقريبه أقاربه في الولاية والعطاء

وقالوا: إن عثمان ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق، ومن بعضهم الخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه، وعوتب على ذلك مراراً فلم يرجع، وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربع مئة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار.
أما تولية عثمان أقاربه: فقد كان عدة ولاة عثمان أزيد من 42 والياً، منهم سبعة فقط من أقاربه، وكانوا كلهم على درجة عالية من الكفاءة والإخلاص والطاعة والأعمال المجيدة. وقد كان عثمان يتابعهم ويحاسبهم وعزل غير واحد منهم، وإن كان في كثير من الحالات لايستحق العزل، قطعاً لدابر الفتنة.
وأكدنا على ناحية مهمة وهي أنه كان عدد جم من كبار الصحابة ومشاهيرهم تحت إمرة أولئك الولاة، وشهدوا معهم فتوحاتهم، وراقبوا سياستهم، فما بدرت منهم شكوى على واحد منهم، ولا حفظ لنا التاريخ خروجاً منهم على ولاتهم، أو طلباً من عثمان بأن يعزلهم، إنما كانت الخروقات والأراجيف والشكاوى من الأغمار والرعاع وأصحاب الهوى.
وأما ما نسب إلى عثمان من أنه آثر أقاربه من الأمويين بالأعطيات، وأغدق عليهم من بيت المال، فنقول: إن عثمان كان يؤثر أهله وأقاربه تأليفاً لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، لكنه ما كان يمد يده إلى بيت مال المسلمين، بل ينفق من ماله الخاص، وهو أحد أثرياء قريش كما يعرف القاصي والداني، وقد أفصح عن ذلك فقال لأولئك الذين خرجوا عليه واتهموه بخيانة الأمانة: (وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا!).
وقول القائل بأن عثمان دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربع مئة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار هو قول مرسل لا زمام له ولا خطام، وأين النقل الثابت في ذلك؟ وهو من الكذب البين.
بل ثمة روايات تبين أن عثمان إذا أعطى أحداً من أقاربه هبة مالية من بيت مال المسلمين لقضاء حاجة ضرورية أو طارئة؛ كان يستردها منه بوجود شهود من المسلمين، لكن بعض رواة المصادر والكتاب يسكتون عن عملية الاسترداد لإثارة الرأي العام ضده.

إتمام الصلاة بمنى

وقال المنحرفون: إن عثمان أتم الصلاة بمنى أربعاً، فخالف بذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر، حيث كانوا يصلون الصلاة الرباعية ركعتين قصراً، وكذلك هو صلاها ركعتين ست سنين من خلافته ثم أتم الصلاة سنة 29ه‍.
نقول: إتمام عثمان الصلاة بمنى أمر ثابت في الصحيح، وكذلك واجتهاد عثمان في هذه المسألة ومبرراته في ذلك. لكن المنحرفين قوم بهت يريدون عيب عثمان وإدانته والإرجاف بسيرته الطاهرة في كل موطن، ويدعون لأنفسهم حق الفهم والاجتهاد في الدين أكثر من الصحابة بل ومن عليتهم وأئمتهم فعثمان وهو ثالث الخلفاء الراشدين الذين هم أعلم وأجل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس له في نظر المنحرفين أن يجتهد في مسائل الدين التي لم ينص على أحكامها ولا ندري وايم الحق لمن شرع الله الاجتهاد إذا لم يكن من حق عثمان وأضرابه من أئمة الهدى.
وجمهور الفقهاء في سائر أمصار الإسلام على أن قصر الصلاة في السفر رخصة، والإتمام عزيمة، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإذا كان عثمان لم يأخذ برخصة قصر الصلاة، فقد أخذ بالعزيمة وقد وافقه على اجتهاده جمهرة من الصحابة.
وزيادة على ذلك فإن عثمان قد أوضح على الملأ وجاهة اجتهاده وأسباب إتمامه؛ ومن أجل ذلك وأخطره أنه خشي على الأعراب في مضاربهم ومن بعدت بلادههم في أطراف الأرض أن يروا الخليفة وكبار الصحابة قد صلوا ركعتين، فيظنون أن الصلاة دائما هكذا، وقد لا يتصل أناس منهم بمن يعلمهم ويرشدهم، وقد جاء عن ابن جريج أن أعرابياً نادى عثمان في منى: يا أمير المؤمنين، مازلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين.

زيادة الأذان يوم الجمعة

وعاب المنحرفون على عثمان أنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة.
نقول: زيادة عثمان الأذان يوم الجمعة أمر ثابت في صحيح البخاري وغيره، فصار هناك يوم الجمعة ثلاثة نداءات: الأول: لإعلام الناس بوقت الجمعة، وهو الذي زاد عثمان على (الزوراء)، وكان ذلك سنة 30ه‍، والثاني: بين يدي الخطيب، والثالث: هو الإقامة.
وهذا الذي عابه المنحرفون على عثمان وكان من جملة ما نقموه منهم أن يدعوه، وقد زاده عثمان لما كثر عليه؛ هو مما يتعجب المسلمون لتعميم إبلاغهم بهذه الشعيرة الجليلة، وفعل ذلك اجتهاداً منه، وفي المدينة أكابر الصحابة وعلماؤهم مثل علي وطلحة والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمر وغيرهم، وبمشهد من المهاجرين والأنصار، ولم ينكروه عليه، واتبعه المسلمون جميعاً، ووافقوه عليه فصار إجماعاً سكوتياً فما بال أولئك الشانئين السبئيين من هذه الأراجيف، وأين يقع مكانهم من الصحابة، وهل هم أولى بالاجتهاد منهم، أم تراهم أحرص على نقاء الإسلام منهم.

جمع القرآن الكريم وحرق ما سوى المصحف

وقالوا: وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف.
إن العناية العظيمة التي أولاها أبو بكر وعمر، وأتمها صنوهما عثمان؛ في جمع القرآن وتثبيته وتوحيد رسمه وجمع الأمة قاطبة على المصحف الإمام هو أعظم عمل قاموا به، ولهم أعظم المنة على المسلمين إلى يوم الدين.
ولم يكن يدور بخلد عاقل أن يعمد أولئك الخارجون المنحرفون إلى أجل فرائد عثمان، وأحسن محاسن رجالات الإسلام، وأفضل أعمال الخلفاء الراشدين، وأبقى أثر إسلامي وأنفعه وأعوده على الأمة بالخير والبركة في حاضرها وماضيها ومستقبلها فينظموها في سلك المعايب والمآخذ ولكنها الأهواء إذا عمت أغمت، وإذا سادت أفسدت وأي عقل مستقيم يفهم أن جمع القرآن الكريم، وتوحيد مصاحفه واجتماع الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها على نص موحد لدستورها المسيطر على مقومات حياتها عيب من العيوب التي تعد على أمير المؤمنين عثمان ويكون دعامة لشر انقلاب عرفه المسلمون؟.
وجمع المسلمين قاطبة على مصحف إمام واحد، وحرق ما سواه من مصاحف وصحف؛ قد شهده الصحابة في المدينة وأجمعوا عليه وتابعهم كافة الصحابة والناس في الأمصار، وعلى رأسهم علي بن أبى طالب، وقد خالف ابن مسعود في الكوفة ثم رضي وتابع، فما شأن المنحرفين والسبئيين والرعاع من هذا الأمر؟! وما قيمة إرجافهم ورفعهم تلك الذريعة التي قلبوا فيها الحق باطلاً، وضموها إلى جملة أباطيلهم التي ادعوها على الخليفة الراشد رضي الله عنه.
وأمر هؤلاء مغرق في الغرابة والعجب، فالمصحف الإمام كان في آخر سنة 24ه‍ وبدايات الفتن والخروج على عثمان كان نحو سنة 33ه‍، فأين كانت عقول هؤلاء الأفاكين وألسنتهم ومزاعمهم في الحرص على الإسلام وكتابه مدة هذه السنين الطويلة؟.

شأن الحمى

وعاب المنحرفون عليه أنه حمى الحمى. والحمى: أراض خصصت لرعي الإبل والخيل التي تملكها الدولة، وتشمل ما كان للصدقات أو المعدة للجهاد وكان رسول الله قد حمى وادي النقيع، واستمرت حمايته في عهد أبي بكر وعمر، وزادت المناطق المحمية في عهد عمر ومن ذلك حمى الزبذة والشرف.
واقتفى الخليفة الثالث سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولم يأت في ذلك شيئاً نكراً وقال لوفد الخارجين عليه لما واجههم ورد عليهم جميع انتقاداتهم: (فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لما زاد من إبل الصدقة).
وأيضا فإن عثمان فعل ذلك بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم، وما علمنا أحداً منهم أنكر ذلك عليه، حتى جاء في أخرة من الزمان هؤلاء الضالون المنحرفون يريدون أن يعلموا أمير المؤمنين وأصحابه من المهاجرين والأنصار الورع والنبل والحرص على مال الأمة وإقامة العدل.

رد الحكم بن أبى العاص

وقالوا: (وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة).
نقول: الحكم بن أبي العاص من مسلمة الفتح من الطلقاء، ولم يكونوا يسكنون المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا: هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها والطرد هو النفي، والنفي قد جاءت به السنة في الزاني والمخنثين، وكانوا يعزرون بالنفي، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي، لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً. وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه، فكيف لايقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب ابن أبي سرح.
والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بإبنتيه وشهادته له بالجنة، وأنه توفي وهو عنه راض، وتقديم الصحابة له بالخلافة، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضيا عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع، ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته بل إن أمير المؤمنين عثمان قد رد على المنحرفين هذه التهمة له فأقروا له بذلك، قال رضي الله عنه: (وقالوا: إني رددت الحكم وقد سيره رسول الله! والحكم مكي، سيره رسول الله من مكة إلى الطائف ثم رده رسول الله، فرسول الله سيره، ورسول الله رده، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم).

مواقفه مع بعض أكابر الصحابة

وقال المفترون: وضرب عثمان عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءه، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه، وأجلى أبا ذر إلى الزبذة وهذه فرى جديدة نسجها القصاصون وألصقوها بسيرة عثمان الطاهرة، وهي تسير على المنهج الملتوي الذي سار عليه الأخباريون ممن قصدوا النيل من عثمان وعهده المبارك.
أما بالنسبة للتهمة الأولى، وهو الزعم بأن عثمان ضرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما حتى كسر أضلاعه، ومنعه عطاءه، فهذه الرواية مختلقة، ليس لها أصل، وعندما بُويع عثمانُ رضي الله عنه بالخلافة قال عبد الله بن مسعود: بايعنا خيرنا ولم نأل.
فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن خير الأمة في هذا الوقت هو عثمان رضي الله عنه، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واليًا لعثمان رضي الله عنه على بيت مال الكوفة، وكان والي الكوفة في ذلك الوقت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فلما أراد عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد اختار رضي الله عنه لهذا الأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد اختاراه من قبل لجمع القرآن في المرة الأولى، وذلك لأن زيدًا رضي الله عنه هو الذي استمع العرضة الأخيرة للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الصحف الأخرى تكتب تباعًا كلما نزل من القرآن شيءٌ كُتب فيها.

وقد كان لعبد الله بن مسعود مصحف يختلف في ترتيبه عن مصحف زيد بن ثابت رضي الله عنهما، ولهجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من هذيل، وليست من قريش، وقد كان الأمر أن تكون كتابة المصحف على الاتفاق، وعند الاختلاف يُرجع إلى لهجة قريش؛ لأن القرآن نزل بلسانها، فلما علم عبد الله بن مسعود أن القرآن سيجمع على قراءة ثابت، وأن مصحفه سوف يحرق غضب غضبًا شديدًا ووقف على المنبر في الكوفة وقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} [آل عمران:161].
وإني غال مصحفي فهو رضي الله عنه يتأول الآية، وإنما الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، ولكن عبد الله بن مسعود يريد أن يقول أنه سيحتفظ بمصحفه هذا ولن يوافق على حرقه ليأتي به يوم القيامة، وقد كان يريد رضي الله عنه أن يكون من الفريق المكلف بكتابة المصحف، لأنه كان ممن أثنى على قراءتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا باتفاق ولكن كانت لهجته تختلف عن لهجة قريش، ورخص له النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة بلهجته، ولكن الأمر الآن يتجه إلى جمع الناس على مصحف واحد، ويجب أن يكون باللسان الذي نزل به القرآن، وهو لسان قريش، فلما فعل ذلك عبد الله بن مسعود أجبره عثمان رضي الله عنه على حرق مصحفه، فعاد إلى المدينة يناقش عثمان رضي الله عنه والصحابة جميعاً في هذا الأمر، واجتمع كبار الصحابة على عبد الله بن مسعود، وأقنعوه بالأمر، وأن هذا الأمر فيه الخير للمسلمين، فلما علم ذلك رجع عن رأيه، وتاب رضي الله عنه بين يدي عثمان رضي الله عنه، وعادت العلاقة بينه وبين عثمان رضي الله عنه كما كانت قبل هذه الحادثة.

أما التهمة الثانية فهي أنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه حتى فتق أمعاءه، ولو حدث هذا ما عاش عمار بعد تلك الوقعة المكذوبة، ولكن عمارا رضي الله عنه عاش حتى موقعة صفين بعد ذلك، فضرب عمار رضي الله عنه حتى فتق أمعائه لم يحدث، أما ضربه فقط فقد حدث، والسبب في هذا الأمر أنه قد حدث خلاف بين عمار بن ياسر رضي الله عنه، وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب رضي الله عنه، فقذف بعضهما بعضاً فعزرهما عثمان رضي الله عنه بالضرب، بعد أن رأى أن كلا منهما قد أخطأ في حق أخيه، ومر هذا الأمر دون أن يترك أثراً في نفوس الصحابة رضي الله عنهم جميعا.

أما التهمة الثالثة فقد قالوا: إن عثمان رضي الله عنه قد أجلى أبا ذر رضي الله عنه من الشام إلى الربذة.
والصحيح أن عبد الله بن سبأ لما لم يجد صدى لكلامه في أرض الشام ذهب إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان زاهداً شديد الزهد عاكفا عن الدنيا بالكلية، وأراد ابن سبأ إشعال الفتنة في الشام، فقال لأبي ذر رضي الله عنه: إن معاوية يقول: إن المال مال الله يريد بذلك أن يحجزه عن المسلمين.
ومعاوية رضي الله عنه قال هذه الكلمة، ولكن ابن سبأ اليهودي أوله لأبي ذر على غير ما يراد بها، فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه وقال له: تقول: المال مال الله؟ قال: نعم.
فقال له أبو ذر: المال مال المسلمين، فقال له معاوية رضي الله عنه وكان معروفًا بحلمه الواسع: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه والأمر أمره؟ فقال أبو ذر: فلا تقله.
فقال له معاوية رضي الله عنه في منتهى الرفق: لن أقول: إن المال ليس مال الله. ولكني أقول: المال مال المسلمين.
وكان أبو ذر رضي الله عنه يمر على أغنياء الشام، وعلى ولاة معاوية في أنحاء الشام، ويقرعهم بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]. ويقول لهم: من امتلك أكثر من قوت يوم واحد، فقد كنز المال، ودخل تحت حكم هذه الآية.
فهو رضي الله عنه يرى أن على كل من يمتلك أكثر من قوت يوم واحد أن ينفقه في سبيل الله على سبيل الفرض، ولا بد من ذلك، ومن لم يفعل دخل في حكم الآية، وقال أبو ذر رضي الله عنه هذا الكلام لمعاوية بن أبي سفيان أيضا، فقال له معاوية رضي الله عنه: سبحان الله إن الناس لا تطيق ذلك، وهذا الأمر ليس بواجب، وبلغ معاوية رضي الله عنه هذا الأمر إلى عثمان رضي الله عنه.
ولما علم عثمان من معاوية بأمر أبي ذر رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم، أرسل إليه، فجاءه، وتناقش معه عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا الأمر، وقال أبو ذر ابتداءً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا، وهو مكان في أطراف المدينة لم يكن البناء قد بلغه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الخبير بالرجال يعلم جيداً أنه إذا انتشرت الحضارة في المدينة ووصل الناس إلى هذه الدرجة من المعيشة فلن يستطيع أبو ذر أن يعيش بين الناس نظراً لطبيعة الورع والزهد التي يعيش عليها ويلزم نفسه بها، ولو عاش بين الناس بهذا الأسلوب لأرهق نفسه وأرهقهم، ومن ثَم ينصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة.
فقال عثمان لأبي ذر رضي الله عنه: فما الرأي؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: أريد الربذة.
قال عثمان رضي الله عنه: فافعل، أي أنه وافقه على ما يريد.
فخرج رضي الله عنه بإرادته، واختياره، وباقتراحه إلى الربذة، ولم يكن هذا نفيا أو طردا كما ادعى أصحاب الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، وكما ادعى الشيعة بعد ذلك، ووقع في ذلك الكثير من جهال المسلمين الذين ينقلون دون علم أو وعي، ويؤكد على ذلك ما رواه عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانَ سَلْعَا فَاخْرُجْ مِنْهَا".

تعطيل إقامة الحدود

وقال المفترون المنحرفون في عيب عثمان: وضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهزمزان، وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى حده علي بن أبي طالب.
نقول: المتتبع لسيرة الهرمزان يرتاب في صحة إسلامه، ويجزم بتدبيره الدسائس والمكائد للمسلمين واستمراره بالخديعة حتى مع عمر بن الخطاب عن سعيد بن المسيب: (أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة طعن عمر: مررت على أبي لؤلؤة عشي أمس، ومعه جفينة والهرمزان، وهم نجي، فلما رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فانظروا بأي شيء قتل وقد تخلل أبو لؤلؤة أهل المسجد، وخرج في طلبه رجل من بني تميم، فرجع إليهم التميمي، وقد كان ألظ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه فقتله، وجاء بالخنجر الذي وصفه عبد الرحمن بن أبي بكر فسمع بذلك عبيد الله بن عمر، فأمسك حتى مات عمر، ثم اشتمل على السيف، فأتى الهرمزان فقتله).
وقد ثبت أن الهرمزان وجفينة بشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر وأبي هريرة أنهما أعانا ومالأ على قتل عمر، وعبد الرحمن وأبو هريرة مجزوم بعدالتهما ونزاهتهما وبعدهما عن الشبهة ومظنة الغرض، ومع ذلك فإن عثمان لم يعطل حد الله في القصاص من القاتل، وثمة روايتان في الموضوع:
الأولى: هي تتمة حديث سعيد بن المسيب في قصة عبد الرحمن بن أبي بكر ووقوفه على ائتمار الهرمزان لقتل عمر، ففي آخرها: (فلما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال: أشيروا علي في قتل هذا الرجل الذي فتق في الدين ما فتق فاجتمع المهاجرون على كلمة واحدة يشايعون عثمان على قتله، وجل الناس الأعظم مع عبيد الله يقولون: لعلكم تريدون أن تتبعوا عمر ابنه؟! فكثر في ذلك اللغط والاختلاف، ثم قال عمرو بن العاص لعثمان: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك على الناس سلطان، فأعرض عنهم وتفرق الناس عن خطبة عمرو، وانتهى إليه عثمان، وودي الرجلان والجارية).

والثانية: عن (القماذبان وهو ابن الهرمزان، يحدث أن عثمان دعاه وأمكنه من عبيد الله بن عمر، وقال: يابني، هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فأذهب فاقتله! قال القماذبان: فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه، فقلت لهم: ألي قتله قالوا: نعم فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم!).
ويمكن التوفيق بين الرواتيين، فابن الهرمزان أسقط حقه في دم أبيه، ومع ذلك فإن أمير المؤمنين عثمان أخرج ديته من ماله الخاص.

ويأتي هؤلاء السبئيون المنافقون ومن بعدهم الرافضة فيتهمون عثمان بأنه عطل حدود الله!. وأما قولهم: (أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حده علي)، فهو كذب على عثمان وعلى علي، بل عثمان هو الذي أمر علياً بإقامة الحد على الوليد، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم.
وبداية يَرُدّ القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم قائلًا أن من فسّق الوليد بن عقبة فهو فاسق، ففي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه استأمنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر على الرسائل التي كانت بينه، وبين خالد بن الوليد، كما أرسله مددًا على رأس قوة إلى عياض بن غنم في دومة الجندل، وفي سنة 13 هـ تولّى لأبي بكر الصديق صدقات قضاعة، فكان هو الذي يجمع الصدقات لأبي بكر رضي الله عنه.
وعينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إمارة قبائل بني تغلب، وتنوخ، وربيعة، وعرب الجزيرة، ليحمي ظهور المسلمين، وقام بهذه المهمة خير قيام، وقد بدأ رضي الله عنه ينشر الدعوة في القبائل النصرانية الموجودة بتلك المنطقة.

وفي عهد عثمان رضي الله عنه تولّى أمر الكوفة، وظل في إمارته خمس سنوات كاملة، يحبه أهل الكوفة ويحبهم، وكان الزائرون لا ينقطعون عن بيته يطعمهم، ويسقيهم، وكان الناس في رخاء شديد في عهد الوليد بن عقبة، فقد كان صاحب فتوحات عظيمة في أراضي الفرس، وكان رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم.
وقد ادعوا عليه أنه كان يشرب الخمر، وقد اتهم بهذا؛ لأنه أقام الحدود على من ارتكب ما يوجب حداً من أهل الكوفة، كما أنه أقام حد القتل على ثلاثة قتلوا رجلاً، وشهد عليهم أحد الصحابة وابنه، فأحرق ذلك قلوب آباء هؤلاء الثلاثة، وكانوا جميعا من الأشرار المشهورين وكان أحدهم قد غضب عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وطرده من المدينة، فذهب إلى الكوفة، وكان سبب طرده أنه تزوج من امرأة قبل انتهاء عدتها من زوجها الأول، فهؤلاء الموتورون المصابون في أبنائهم ذهبوا إلى عثمان رضي الله عنه، وادعوا على الوليد بن عقبة ظلما، وزورا أنهم شاهدوه يشرب الخمر، وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى الوليد بن عقبة فلما أتى قال له عثمان: إنهم يشهدون عليك أنك قد شربت الخمر، ورأوك سكران تتقيأ. فحلف الوليد أنه لم يفعل، فقال عثمان رضي الله عنه: نقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار. مع أنه قريباً له من ناحية الأم وقيل: أخوه لأمه، وأقام عليه الحد، وقيل: الذي جلده هو علي بن أبي طالب، وبعدها عزله عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وعلى فرض أن هذا الذنب قد حدث منه، فالذنوب لا تسقط العدالة ما دام الإنسان قد تاب منها، وقد أقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد على قدامة بن مظعون رضي الله عنه، وهو من قدامى الصحابة، وممن هاجر الهجرتين، وشهد بدرا، فلما شرب الخمر أقام عليه الفاروق الحد، ولم ينقص ذلك من قدره؛ لأنه تاب من ذنبه.

تعليقات
ليست هناك تعليقات




    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -